بقلم: محمد نذير سالم – مستشار تطوير أعمال ومدرب، مؤسس في شركة مينا اكسبيرتيز

 

في إحدى الدورات التي كنت فيها مدرباً ..قمنا بإعطاء المتدربين شهادات حضور ..لاحقاً وضعها أحدهم على وسائل التواصل للسخرية ..ملمحاً أنها دليل على إعطاء شهادات بدون قيمة ..ومن غير متخصصين ..رغم أنها مجرد شهادات تشهد بحضور المتدرب للدورة دون أن تشهد بأي مستوى له ..ولم يسعفني الانشغال وقتها لكتابة للرد عليه ..لكن الأمر جدير بتوضيحه.
في عالم التدريب والاستشارة ..وفي خضم الحديث عن أولوية الشهادات أم المهارات ..المعرفة أم الخبرات العملية ..ثمة تساؤلات مشروعة عن شرعية وأحقية المعلم /المدرب أو الموجه أو المستشار
coach, mentor, consultant or trainer
في وضع نفسه في مصاف المستشارين، مع التأكيد على وجود فوارق بين المسميات السابقة .. تتسع مع زيادة التخصص سواء للمدرب أو للشريحة المستهدفة من التدريب ..لكنني أكتب هنا بناء على المساحة المشتركة بينها جميعاً….
باعتقادي أن المدرب أو الموجه في مجال ما ..يجب أن يمتلك مهارتين أساسيتين ..تتفرع عنها مهارات عديدة ..
المهارة الأولى: ما يسمى بالمهارات الصلبة ..وهذه بدورها تأتي مزيجاً من عاملين أساسيين ..هما المعرفة أو العلم ..والثاني هو الخبرة والتجربة..
في الحديث عن المعرفة أو العلم ..ثمة من يظن أن امتلاك المعرفة أو العلم هو فقط “حكي نظري” لا علاقة له بالواقع ..وهذا برأيي خطأ شنيع فادح ..فالمعارف والعلوم تبنى على الخبرات المصقولة وتستقي منها وتقعّد الخبرة.. وتختصر اختراع العجلة من جديد..ولذلك ..الممارسات تستبق العلوم الاستقصائية التي تبنى عليها ..فقرض شعراء العرب الشعر دون معرفتهم بعلم العروض ..وفقه الفقهاء من الصحابة الفقه دون معرفتهم بعلوم أصول الفقه المعروفة .. ..ووضعت علوم الإدارة والأعمال والسياسة بناء على مراجعات ممارسات الفاعلين في كل حقل إضافة الى دعمها بالنظريات ..وتتراكم المعارف وتتطور نتيجة المزج بين النظريات والتطبيق ..وهكذا ..فالمعرفة ليست نقيض الخبرة العملية ..على العكس ..إنها نوع من اختصار “التعلم من أخطائك ومن كيسك” كما يقال إلى “التعلم من أخطاء الآخرين وتراكمية الخبرات البشرية”…
من يحكم بامتلاك شخص لهذه المعارف؟ ..هذا متعلق بطبيعة العلم ..وهنالك جدل كبير في كل حقل ..جدير بالذكر هنا أن امتلاك الخبرة المطولة مع تتبع الدورات والمعارف كفيل بامتلاك الشخص لقدر معين من المعارف ..ولا يشترط أن يدرس التخصصات الجامعية فيها ..خاصة عند الحديث عن علوم متعلقة بالشأن العام ..كالادارة والأعمال ..والإعلام والسياسة والتسويق الخ..وكثير من كبار السياسيين هم ممارسون وليسوا علماء سياسة ..والبعض يربط المعرفة هنا بالتخصص الجامعي ..ولا أجد ذلك صحيحاً..وقد برع عدد من الشباب في حياتهم العملية في أكثر من مجال دون أن ينهوا المرحلة الجامعية..ولا يعني هذا أنهم اعتمدوا على الخبرة فقط ..بل اكتسبوا المعارف والعلوم غالباً من خلال التدريب والدورات ..
العامل الثاني في المهارة الصلبة ..والذي يمتزج مع المعرفة ..هو الخبرة العملية والحياتية والتجربة ..في المجال الذي يتم التوجيه أو التدريب فيه خاصة ..والحياة عامة ..هذه الخبرة هي التي تصقل معرفة المدرب أو الموجه ..بل توجه معارفه في السياق الأدق لأن العلوم متسعة وغير محدودة ..وبها يستطيع تخصيص وقولبة المعرفة التي امتلكها في السياق الذي يعمل به ..والذي قد يختلف عن السياق العام الذي افترضته المعارف والعلوم ..ويلعب في بناء الخبرة أيضاً الشغف والموهبة ..فتجد انساناً بارعاً في التجارة أو الغناء أو الرسم بشكل فطري ..ولكن المعارف والخبراء تصقل موهبته وتنميها ..
وهنا قد يكون المتدربون بحسب حالتهم ..بحاجة إلى الاستزادة من معرفة المدرب أكثر من خبرته العملية أو العكس ..المدرب الذي يعتمد على الخبرة فقط دون المعرفة ..وان كانت خبرته كبيرة ..يبقى أسيراً لتجربته التي قد تكون استثناء أو فيها استثناءات عن التقعيد المعرفي..ويستطيع إفادة المتدربين في حقل ضيق متعلق بتخصصه الدقيق ربما والذي قد لا يصادف سياق المتدربين وحالتهم بالضرورة..والمدرب الذي يعتمد المعرفة دون الخبرة ..قد لا يستطيع أن يفيد المتدربين بتخصيصات عملية للإحالات المعرفية التي يعزو لها..فالمهارة الصلبة للمدرب أو المستشار ..هي مزيج من المعارف والخبرات العملية والحياتية..
ماذا عن الخبرة الحياتية وفهم تجارب الآخرين؟..أعتقد أنها مزيج من المعرفة والخبرة سوياً ..حيث يقوم المدرب بتحليل رؤيته لتجارب الآخرين بناء على معرفته وخبرته ..
المهارة الثانية: ما يسمى بالمهارات الناعمة..
وهي لا تقل أهمية بالنسبة للموجهين والمستشارين والمدربين عن المهارات الصلبة ..وهي تشمل مهارات التواصل والحوار والذكاء العاطفي في التواصل مع المتدربين أو المتوجهين ..والقدرة على خطابهم وفق ثقافتهم أو ما يفضلونه الخ ..
وهنا ..قد يبرع مدرب في إيصال الفكرة وضرب الأمثلة للمتدربين لامتلاكه مهارات ناعمة في الحديث والجاذبية ومعرفة احتياجات متدربيه أكثر من مدرب آخر يمتلك عمقاً معرفياً وخبراتياً (المهارات الصلبة) ..وبالتالي تكون إفادته أعلى لهم ..وقد يكون العكس ..يعود هذا إلى طبيعة المتدربين ..
ولن يبلغ معلم أو موجه الكمال في كل هذه المهارات ..
خاصة في ظل تفرع الاختصاصات وما تحت الاختصاصات لحد بعيد ..
وبالتالي لكل مجتهد نصيب ..إن عرف حدود خبراته ومعرفته ..
على أن التدريب والتوجيه والاستشارة باتت تخصصاً بحد ذاتها ..ويؤثر تفاوت القدرات لدى المدربين في تصنيفهم أيضاً في أحد المجالات ..فالموجه مثلاً (Mentor) عادة أكثر خبرة وأكبر سناً ..الخ ..
لذلك ..تعلم واستفد ممن ترى أن لديه فائدة ..ولكن محّص وتحقق ..وانتبه أحياناً إلى أن بعض المدربين المهرة قد يقولون ما تراه غير صحيح..ثق بنفسك فلديك رأي أيضاً ..تحفظ على ذلك.. ولكن لا تنسف قدرات المدرب أو المستشار لمجرد رؤيتك لخطئه في نقطة أو أخرى ..
وانتبه إلى أن كثيراً من النقد لأهلية المدربين أو المستشارين إنما يدخل في المنافسة الشخصية والمؤسسية.. ..أو اختلاف وجهات النظر .. وهو أمر طبيعي وجبلت عليه نفوس البشر ..
لا يُلغي هذا أهمية الحذر من المدعين أو السير على نهجهم ..ممن يدعون خبرات ومعرفة لا يتقنونها ..وفي الحديث الشريف
المتشبع بما لم يُعط كلابس ثوبي زور..
بالعودة إلى التدريب وشهادات الحضور..من جهتي ..أسعى إلى أن أكون دقيقاً في ما يمكن أن أفيد به ..ولذلك أعطينا المتدربين شهادات حضور فقط!…وقمت بالتدريب فيما أدعي أنني قضيت وقتاً واكتسبت خبرة معقولة فيه ..

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

You may use these <abbr title="HyperText Markup Language">HTML</abbr> tags and attributes: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>

*